ريشة على جناح الريح”

لفصل الأول: قرية بين الجبال

كانت الشمس تتسلل بخجل من بين الغيوم الكثيفة، تعانق بحنان قمم الجبال التي تحيط بالقرية الصغيرة “واد الأمل”. هناك، حيث البيوت مبنية من الطين والحجر، ونسيم الصباح يحمل رائحة القهوة والخُبز، عاش فتى في السادسة عشرة من عمره يُدعى سليم.

كان سليم مختلفًا عن أقرانه. بينما كان الأطفال يركضون خلف الكرات في الحقول، كان هو يجلس على صخرة قرب جدول الماء، ممسكًا بقطعة فحم صغيرة، يرسم وجه أمه، أو غيمة تُشبه قاربًا، أو طائرًا محلّقًا في السماء.

لم يكن أحد يفهم شغفه بالرسم. في عيون أهل القرية، لم يكن الرسم سوى مضيعة للوقت. قال له والده ذات يوم، وهو يُصلح باب الزريبة:
“الرسم لا يُطعم خبزًا، يا بني. تعال وساعدني، الحياة لا تُرسم، بل تُحرَث.”

لكن قلب سليم لم يكن يسمع هذه الكلمات. كان يسمع شيئًا آخر… شيئًا يأتي من أعماقه: نداء حلمٍ لا يريد أن يموت.

الفصل الثاني: الريشة والأمل

كان يملك كنزًا صغيرًا: ريشة طائر بيضاء، وجدها ذات صباح علقت في نافذته. احتفظ بها كما يحتفظ المحارب بسيفه. استخدمها في الرسم، رغم بساطتها. كانت بالنسبة له رمزًا.
كان يرسم في الخفاء، داخل مخزن البيت، حيث تُخزن الحطب وأكياس القمح. هناك، كانت جدران الطين تحمل بصماته: عينان تبكيان، شجرة وحيدة، وفتى يحاول الطيران.

ذات مساء، جلس سليم مع أمه، تحكي له قصة عن فنانٍ قديم عاش في مدينة بعيدة، رفض الناس فنه، لكنه لم يتوقف. في النهاية، أصبح لوحاته تُباع بالذهب.

قالت له، وهي تضع يدها على رأسه:
“إذا كان حلمك حيًا في قلبك، فهو حقيقي، مهما أنكره العالم.”

حينها فقط، أدرك سليم أنه لا بد أن يغادر.

الفصل الثالث: الرحيل

لم يكن القرار سهلًا. أن يغادر قريته التي وُلد ونشأ فيها، ويترك وراءه والدته، الذكريات، وحتى الجدول الصغير الذي طالما رسم قربه. لكنه شعر أن الحلم لا ينتظره، وأن عليه اللحاق به قبل أن يذبل داخله.

في صباحٍ بارد، وقف سليم عند حافة الطريق الترابي يحمل حقيبة قماشية قديمة، بداخلها بعض الملابس، دفتر رسومات، والريشة البيضاء. كان قلبه يدق بسرعة. لكن قبل أن يتحرك، سمع صوتًا مألوفًا خلفه.

“هل كنت تنوي الرحيل دون أن تخبرني؟”

استدار ليجد رامي، صديقه منذ الطفولة، يقف والابتسامة تملأ وجهه رغم الحزن الذي في عينيه. كان رامي أكثر واقعية من سليم، يعمل مع والده في المزرعة، ولا يصدق كثيرًا في الأحلام.

قال سليم، وهو يشيح بعينيه:
“لم أرد أن أسمع كلمات تمنعني من الذهاب.”

اقترب رامي منه، ووضع يده على كتفه:
“أنا لست هنا لأمنعك… بل لأرافقك.”

تفاجأ سليم، لكن عيني رامي كانتا تحملان صدقًا لم يره من قبل.
“لن أدعك تواجه العالم وحدك، حتى لو لم أكن فنانًا مثلك.”

وهكذا، بدأ الاثنان رحلتهما نحو المدينة الكبرى، المدينة التي لم يروها إلا في خيالهم. كانت الرحلة طويلة، استقلّا حافلة مهترئة، ووصلا إلى المدينة عند الغروب، حيث الأضواء تلمع، والضجيج لا يتوقف.

وهناك، بدأ فصل جديد…

الفصل الرابع: المدينة لا تنتظر أحدًا

عندما دخل سليم ورامي المدينة، شعرا كأنهما دخلا إلى كوكبٍ آخر. المباني تلامس السماء، الناس يتحركون بسرعة وكأنهم لا يملكون وقتًا للحديث، والسيارات تزمجر في كل شارع.

استأجرا غرفة صغيرة في أحد الأحياء الشعبية، بالكاد تتسع لسريرين وخزانة. رامي وجد عملًا بسرعة كنادل في مطعم صغير، أما سليم… فقد كان يبحث عن مكان يسمح له بأن يرسم.

أيام مضت، ثم أسابيع.

كان سليم يجوب الشوارع، يحمل حقيبته، يسأل عن معارض، أندية فنية، أي مكان يمكن أن يرى فيه الناس رسوماته. لكنه واجه الأبواب المغلقة، والنظرات المشفقة، وكلمات باردة:
“نحن لا نقبل أعمال الهواة.”
“عد بعد أن تصبح معروفًا.”

وفي إحدى الليالي، جلس على درج مبنى قديم، الريشة بين أصابعه، والدموع في عينيه. اقترب منه رامي، يحمل كيسًا فيه عشاء بسيط.

قال له:
“ما زلت تؤمن بحلمك؟”

أجابه سليم، دون أن ينظر إليه:
“أؤمن… لكن المدينة لا تؤمن بي.”

ابتسم رامي، وقال وهو يفتح الكيس:
“المدينة لا تؤمن بأحد حتى يثبت نفسه. أرني رسمك الجديد.”

أخرج سليم لوحة رسمها صباحًا، تصور فتىً يقف وسط شارع مزدحم، لكن الجميع حوله يسيرون في الاتجاه المعاكس.

نظر رامي للوحة طويلاً، ثم قال:
“هذه اللوحة… ليست فقط جميلة، إنها حقيقية.”

وفي اليوم التالي، بينما كان سليم يرسم في زاوية المقهى الذي يعمل فيه رامي، حدث ما لم يتوقعه…


الفصل الخامس: الفرصة الأولى

كان سليم منغمسًا في الرسم، يرسم فتاة تقرأ كتابًا وسط صخب المدينة، حين دخل إلى المقهى رجل في منتصف العمر، يرتدي بدلة أنيقة ويحمل دفترًا صغيرًا.

جلس في الزاوية، وطلب قهوة. وبينما كان ينتظر، لمحت عيناه اللوحة التي تركها سليم على الطاولة ليجفّ الحبر.

اقترب ببطء، حمل اللوحة ونظر إليها مطولًا، ثم التفت إلى سليم.

“من رسم هذا؟”

رفع سليم رأسه، وبصوت خافت قال:
“أنا.”

“هذه اللوحة… تملك شيئًا لا يُدرّس في الجامعات. فيها صدق، وتفاصيل لا يستطيع رسمها إلا من عاشها.”

تعرف الرجل بنفسه، كان اسمه فؤاد شاهين، مدير معرض فني معروف في المدينة. طلب من سليم أن يحضر في اليوم التالي، ومعه بعض أعماله. وعرضت بعض أعماله واعجب الجميع بها وصار مشهور ومعروف بين الناس

ولأول مرة، شعر سليم أن حلمه قد لمح نورًا في الأفق.


Scroll to Top